الجميع في النفق المظلم..... فهمي هويدي




لا أستطيع أن أخفي قلقاً مما يجرى فى غزة، ودهشة وصدمة من الحاصل فى الضفة، وحيرة إزاء المؤتمر المريب الذى يسوقه الأمريكيون هذه الأيام تحت شعار السلام.
(1)
المشهد كله مسكون بالمفارقة وغير قابل للتصديق. يكفى أن معادلة الصراع فيه انقلبت رأساً على عقب، حتى أن التناقض لم يعد فلسطينياً وعربياً من جهة وإسرائيلياً من جهة أخرى، وإنما صار فلسطينياً - فلسطينياً. أحداث غزة التى وقعت فى منتصف شهر يونيو الماضى كانت نقطة التحول، بل كانت الكاشفة. اذ يعلم الجميع أن قيادات نافذة فى فتح لم تكن سعيدة بنتائج الانتخابات التشريعية التى تمت فى أوائل عام 2006، وأسفرت عن فوز حركة حماس بأغلبية المجلس التشريعى، الأمر الذى جاء إيذانا بكسر احتكار فتح للسلطة، المستمر منذ توقيع اتفاقيات أوسلو عام 1993 ولأن تلك القيادات رفضت التسليم بنتائج الانتخابات، فقد اختارت لنفسها هدفاً محدداً هو إفشال حكومة حماس، عبر إشاعة الفوضى والفلتان الأمنى، ومن خلال الأجهزة الأمنية الخاضعة لسلطانها. وهو ما دفع حكومة حماس إلى تأسيس جهاز أمنى جديد باسم القوة التنفيذية، ليتولى ضبط الأمن المنفلت. وهو ما لم ترحب به القيادات الأمنية المتربصة، التى قررت أن توسع من نطاق مواجهتها لتشمل هذه القوة الجديدة. ولم يعد سراً أن تأجيج هذه المواجهة والإسراع بها كان هدفاً سعت إليه أطراف أخرى خارج فلسطين، الأمريكيون والإسرائيليون فى المقدمة منها. تجلى ذلك فى التعزيزات التى قدمت بسخاء ملحوظ للأجهزة الأمنية. لكى تتمكن من التصدى للقوة التنفيذية والقضاء عليه. وبدا واضحا من عمليات الاحتشاد والتعزيز التى تمت تحت أعين الجميع أن القطاع مقبل على حرب أهلية بين الأجهزة الأمنية وعناصر "التنفيذية". هذه الخلفية كانت وراء الخطوة الاستباقية التى لجأت إليها القوة التنفيذية. وأرادت بها أن تخلى مراكز الأجهزة الأمنية من العناصر المناوئة التى عطلت عمل الحكومة وأشاعت الفوضى فى القطاع. لكن المفاجأة التى لم يتوقعها أحد أن مقار الأجهزة الأمنية استسلمت بسرعة، وأن المسؤولين عن مقار السلطة (السرايا والمنتدى) اما أنهم تركوا مواقعهم وهربوا، أو أنهم اتصلوا هاتفيا بقيادات التنفيذية لتسليم المقار لهم. وكانت النتيجة أن الذين خرجوا قاصدين مقار الأجهزة الأمنية، وجدوا أنفسهم مضطرين للدخول إلى مقار السلطة لتأمينها، بعدما خلت من ساكنيها، وتقاطر عليها الناس من كل حدب وصوب. من ثم فإن كرة الثلج ظلت تتدحرج ساعة بعد ساعة حتى كبرت، بحيث أصبحت القوة التنفيذية مسؤولة عن كل مرافق القطاع، وتحولت من قوة أمنية حارسة إلى سلطة حاكمة، وهو ما أربكها وأوقعها فى أخطاء أساءت إليها وحسبت على حكومة حماس وحركتها.
(2)
لقد استغربت اللغة التى تحدث بها بعض خطباء حماس فى غزة، الذين اعتبروا ما جرى "تحريراً" واعتبروا الآخرين جميعاً خصوماً وأبالسة. واستنكرت بعض المشاهد التى بثتها فضائية الأقصى مثل الاشتباك مع سميح المدهون وقتله، ومثل الأفلام الكارتونية التى ظهرت فيها حماس أسداً والآخرون «فئراناً». وأزعجنى التبرير الذى أعلن لمنع صلاة الجمعة فى الساحات العامة باعتبارها "صلاة سياسية"، كما أزعجتنى تصرفات بعض عناصر القوة التنفيذية الذين أنزلوا العلم الفلسطينى واستبدلوه بعلم حماس. واستخدموا الهراوات فى تفريق المتظاهرين، ولجأوا دون مبرر إلى اعتقال أشخاص لبعض الوقت. واستغربت ما سمعته عن عمليات ترهيب مارسها بعض أعضاء حماس على مهنيين من خارج الحركة، إلى غير ذلك من الممارسات التى اتسمت بالانفعال ودلت على محدودية فى الوعى والخبرة، وبدت غير منسجمة مع الصورة الإيجابية التى المرسومة لحماس فى الأذهان. وأثار ذلك لدىَّ شكاً فى أن بعض عناصر الحركة استسلموا لنشوة الانتصار وفتنوا بالسلطة، فنسوا أنفسهم وحقيقة دورهم ورسالتهم. حتى قلت فى لحظة شعور بالاستياء أن هؤلاء لايمكن أن يكونوا أبناء الشهيد عز الدين القسام. فى تقييم داخلى أعدته قيادة حركة حماس قبل أسبوعين وأتيح لى أن أطلع عليه، وجدت اعترافاً بالأخطاء التى وقعت، ونقداً ذاتياً رصد مجموعة من المآخذ على ممارسات عناصر حماس فى غزة. كان من بينها ما يلى: بعض التصرفات خرجت تحت ضغط الواقع عن أدبيات الحركة - بعض عناصر التنفيذية ارتكبوا أخطاء جاءت خارج السياسات المعتمدة - تمت مواجهة الأولويات مجتمعة فى حين كان ينبغى ترتيبها حسب أهميتها - بعض أبناء الحركة غلبوا حساباتهم ومصالحهم الخاصة على مصلحة المشروع -ضعف التواصل بين حلقات وأجنحة الحركة، وتدارك ذلك فى وقت متأخر - العجز عن التفاعل مع الإعلام فى بعض المحطات - ضغوط البعض على المؤسسة الأمنية مما أدى إلى إرباك العمل فى بعض الملفات. هذه الاخطاء جري اصطيادها والنفخ فيها اعلاميا حتى تحولت الى بقع سوداء شوهت ثوب حماس وصورتها.
(3)
الأداء فى رام الله (الضفة) أدخل الملف الفلسطينى فى نفق مظلم. فقد تصرفت رئاسة السلطة بعصبية مفرطة، وزادت الأمور تعقيداً. إذ لم تحاول أن تتفهم ما جرى فى غزة وتتعامل معه بحجمه الطبيعى، ولكنها سارعت إلى وصفه بحسبانه انقلاباً. وردت عليه بإقالة الحكومة وإعلان الطوارئ وتعطيل المجلس التشريعى، وإصدار مجموعة من "المراسيم" التى أحدثت انقلاباً سياسياً وتشريعياً هدم كل البناء القانونى الذى أقيم منذ عام 93 لكن أخطر ما فعلته إضافة إلى ما سبق ثلاثة أمور، أولها أن السلطة سعت إلى إحكام الحصار حول غزة، فشجعت قطع التيار الكهربائى ووقف تزويد القطاع بالوقود والمواد الخام. وطلبت إغلاق المعابر، ومنع المساعدات بما فيها الطبية والإنسانية. إلى جانب ذلك فإنها قطعت رواتب آلاف الموظفين، وفصلت مئات آخرين. وذهبت إلى حد مطالبة المواظفين بتعليق عملهم فى الدوائر، وطلبت من مديري الدوائر (90% منهم أعضاء فى تنظيم فتح) إخفاء الأختام الرسمية، لتعطيل كل المعاملات الرسمية.. إلخ. وهو ما يعنى أن قيادة السلطة حاولت الرد على حكومة حماس بخنق القطاع وتدمير حياة المليون ونصف المليون فلسطينى يعيشون فيه. الأمر الثانى الخطير أن قيادة السلطة أدارت ظهرها للعالم العربى وفى المقدمة منه مصر والسعودية، ورفضت دعوات البلدين للحوار مع حماس. وفى الوقت ذاته فإنها ألقت كل الوثائق المرجعية التى يستند إليها فى تحقيق الوفاق والوحدة الوطنية الفلسطينية. (اتفاق القاهرة - وثيقة الوفاق الوطني - اتفاق مكة). الأمر الثالث أن رئاسة السلطة بعدما أدارت ظهرها للعالم العربى، فإنها راهنت على علاقتها مع الأمريكيين والإسرائيليين، الذين كان أهم شرط هو الالتزام بالقطيعة مع حماس وبعدم التجاوب مع دعوات الحوار التى أطلقتها بعض العواصم العربية. وكانت نتيجة ذلك أن أبو مازن اختار أن يدخل فى حوار حول مبادئ الحل النهائى للقضية، التى هى أخطر الملفات وأصعبها، وهو فى أضعف حالاته، فلا إجماع فلسطينيا وراءه، ولا إجماع عربيا. ذلك كله فى كفة وممارسات الأجهزة الأمنية فى كفة أخرى، ذلك أن تلك الأجهزة عمدت إلى الانتقام بمنتهى الشراسة من أعضاء حماس ومناصريها فى مدن الضفة، واستثمرت تركيز الأضواء على غزة، فى التكتم على ما يحدث فى الضفة. ويستحى المرء أن يذكر أن ملاحقة عناصر حماس ورجال المقاومة الذين يرفضون إلقاء سلاحهم فى الضفة، اصبح يتم بالتنسيق بين الأمن الفلسطينى وقوات الاحتلال الإسرائيلى. ومن المفارقات فى هذا الصدد أن أجهزة السلطة قامت بتحرير ضابط إسرائيلى كانت سرايا القدس قد أسرته فى جنين، رغم أن إذاعة الجيش الإسرائيلى أكدت أن هذا الضابط هو المسؤول عن تنسيق عمليات الاغتيال التى استهدفت رجال المقاومة فى شمال الضفة الغربية خلال العام الأخير، ومنهم مقاومون فى حركة فتح. لقد تحدثت وسائل الإعلام عن احتجاز حوالى 70 شخصاً فى غزة لمساءلتهم فى بعض القضايا المتعلقة بمحاولات للتفجير واثارة الفوضى فى القطاع. ولكن اعتقال 600 من عناصر حماس وانصارهم فى الضفة، وتعريضهم للتعذيب الشديد، خبر لم يسمع به أحد. وقل مثل ذلك بالنسبة لمداهمة واحراق بيت رئيس المجلس التشريعى الفلسطينى الدكتور عزيز الدويك، المعتقل لدى إسرائيل، واعتقال أعضاء فى المجلس التشريعى، ورؤساء وأعضاء بلديات الضفة، ذلك كله جرى التعتيم عليه ولم يسمع به أحد. هكذا فإنه فى حين اصبحت الصحف العربية تنشر كل يوم تقريباً معلومات عن ممارسات التنفيذية فى غزة، دون الاشارة الى حقيقة ما يجري في الضفة، فإن حماس لم تجد ما ترد به سوى أن تبعث إلى أمين الجامعة العربية بملف من 82 صفحة، تضمن بيانات مفصلة مدعمة بالأسماء والتواريخ، لما جرى لرجالها فى الضفة حتى أول سبتمبر الحالى. رصد الملف 639 عملية اختطاف واعتقال لأبناء ومناصري الحركة، و36 حالة إطلاق نار عليهم، و175 اعتداء على مؤسسات تعليمية وإعلامية وخيرية تابعة للحركة، و156 اعتداء على الممتلكات الخاصة لأعضاء حماس. أما المجالس البلدية والقروية التى فازت فيها الحركة فقد تم حل 34 منها وتعيين أعضاء من فتح مكانهم. فى الملف أيضاً أن 163 طالباً جامعياً من أبناء الحركة تعرضوا للضرب، وأن 25 اعتداء تعرض له الصحفيون والمراسلون لمنعهم من نقل ما يجرى فى الضفة.. إلخ.
(4)
فى ظل هذا الوضع البائس الذى انتهى بالطلاق والاحتراب بين فتح وحماس، خرجت فكرة مؤتمر السلام الإقليمى من الكيس الأمريكى، لاصطياد أكثر من عصفور فى ذات الوقت. فضرب المقاومة وإضعاف الفلسطينيين فرصة لإسرائيل لكى تنتزع تنازلات أخرى تحقق بها نقاطا لصالحها فى مسيرة الصراع، وتستر عورة أولمرت المفضوح والمهزوز داخلياً بسبب هزيمة جيشه فى لبنان. وإذا ما خرج المؤتمر باتفاق مبادئ فإنه سوف يحسب إنجازاً لإدارة الرئيس بوش التى تبحث عن أى انتصار. وفى السيناريو أن خطوة من هذا القبيل يمكن أن تؤدى إلى تهدئة المنطقة وتسكينها، بما يسمح للأمريكيين بأن يوجهوا ضربتهم التى ينتوونها لإيران، دون خشية حدوث رد فعل حاد من شعوب المنطقة. في سيناريو الاعداد للمؤتمر كان لابد من اعداد مشروع متفق عليه يحدد المبادئ التي يفترض ان تحقق السلام المنشود في المنطقة. وهو الموضوع الذي تجري مناقشته الآن بين ابو مازن وأولمرت، والذي لم يكن مستغربا ان يفرض فيه الطرف الاقوى إرادته. وهو ما تأكد فى الأسبوع الماضى، حين نشرت صحيفة "الحياة" اللندنية فى 12/9 ترجمة عن العبرية لمشروع اتفاق المبادئ الذى تبلور حتى الآن بين الطرفين. وهو فى ثماني نقاط لم تأت بأى جديد. ولذلك لم يكن مستغرباً أن تعلن مصر والسعودية تحفظهما على المشاركة فى المؤتمر، لأن المطلوب منه من الفجاجة بحيث لا تحتمله أكثر الدول اعتدالاً. ثم أنه مأزق آخر لأبو مازن وجماعته الذى راهن على الأمريكيين والإسرائيليين، حين تخلى عن مصادر قوته الحقيقية، فلسطينياً وعربياً. ان الجميع أصبحوا أسرى النفق المظلم.

No comments: